السبت، يوليو 02، 2011

يلا وتعال يلا .. وردى خائل فيه الغرور .. وأغنية مين فكرك يا حبيب!


                (يلا وتعال يلا) 
                         

         
أن تتحدث عن محمد عثمان وردى (القديم)، فذاك عبء ثقيل ومسوؤليه ضحمه وأبحار خطرعلى مركب تتجاذبه رياح عاتية وموج هادر، فأنت تتحدث عن مساحة تمتد طولا من (حـــــلايب) وحتى (نمــولى) .. وعرضا لا حدود لها وتستحضر تاريخ وحضارة انسانيه تزيد عن  7000 سنه. وتتذكر (بعانخى) الذى احتل دوله مجاوره من أجل حماية (الخيول) ومنع اهانتها .. وتتذكر (تهراقا) وتمر بكل  سودانى صاحب سيرة عطرة وكل عظيم نقش حرفا على صفحات تاريخ هذا الوطن الشامخ.

(وردى) .. غنى بلسان أهل الوسط وبلهجة أهل الشمال، لكن حينما يشدو تشعر بانه مسكون بحب كل أنحاء السودان و بجميع أتجاهاته. وطريقة أدائه تشبه سلوكه كأنسان وتشبه مواقفه ورؤاه السياسيه.

والأنطباع الذى تشعر به عندما يصعد (وردى) على خشبة المسرح ويمسك بيده على (المايك)، تشعر وكأنه زعيم سياسى من عينة (مانديلا) سوف يلقى خطابا سياسيا هاما، فلوردى كريزما و هيبة غير عياديه، لا تجدها الاعند بعض الشخصيات الأستثنائيه.

وفى هذا المقام أستحضر عبارة وصف بها الأديب ألأماراتى الرائع محمد المر، الشاعر الكبير ( نزار قبانى)، بالمجمع الثقافى فى (أبو ظبى) حينما قدمه وقال عنه (نحن كالفراشات نحوم حولك، مهما أحترقنا بنيرانك)، وهو يقصد، قصائد البترول .

(وردى) .. يعشقه أهل السودان قاطبة يسارهم ويمينهم، أرادوا أم أبوا وغصبا عنهم، حتى الذين يكرهون مواقفه السياسية تجدهم حينما يغنى يرخون السمع ويتابعونه على طريقة وضع غطاء من الثوب الخفيف وأدعاء النوم، والعينين مفتوحتين أو على طريقة (زنديق كافر ما أفصحه).

وهو فنان صاحب موقف وقضية (فى السابق). صحيح أنه لازع، تحس بانه متعجرف ومغرور وان كان ذلك حقيقى، فالغرور (لايق) فيه، يضيف اليه رونقا ونكهة خاصه، مثله مثل الكثير من المبدعين فى مجالات مختلفة (الغرور عندهم مقبول)، ومبرر. أو مثل (الدلال) عند بعض النساء يكون بطعم الشهد ونكهة القهوة (التركية) ويسمى باسمه( دلعا)، أماعند الأخريات يسمى (قرضمه وفلهمه فى الفارغ)، ذلك التعالى والأعتزاز بالنفس تجده عند نخبة من الشعراء والفنانين والمبدعين ولاعبى الكرة، مثلا الشاعر (أبو الطيب المتنبئ) كان من اؤلئك المتعالين وقد نظم بيتا يقول فيه: -
أنام ملء جفونى عن شواردها

ويسهر الخلق جراها ويختصم

ولا أعتقد هناك غرور يماثل ذلك الذى تجده فى تلك الأبيات.

وفى أغنية ( بت ملوك النيل) التى تؤديها الرائعة (حنان النيل) بصوت سماوى ساحر، بيت بقول:-

الجبرة فيك بتخيل 
محمية الحما
الما حام حداك دخيل

واللأعب الفذ (زين الدين زيدان) الفرنسى الجنسية, الجزائرى الأصل من اؤلئك المغرورين المعتزين بأنفسهم ، عندما يحرز هدفا لا يبتسم كعادة معظم اللأعبين أو يجرى نحو زملائه وأنما يبدئ نوع من الحركات كلها غرور وتعالى لكنه مقبول و(مهضوم) كما يقول الأخوة اللبنانيون. وعندنا فى السودان، لاعب الهلال الفذ / عزالدين الدحيش، كان من اؤلئك ، ويقال و(العهدة على الراوى) من أسباب حل الكرة بالسودان وتحويلها الى ما سمى بالرياضة الجماهيرية ، بأنه خلال مباراة كأس الذهب بين الهلال والمريخ ، وكان المريخ وقتها متقدما بهدف  عادله الهلال فى آخر دقائق المباراة ، وبعد ان بدأ (النميرى) فى تحسس الكأس لكى يسلمه (لكابتن) المريخ قيل أن اللأعب / الدحيش، وبعد احراز هدف التعادل جلس على النجيل الأخضر وواجه المنصة حيث يجلس الرئيس نميرى ووضع ( رجل فوق رجل )، مما أغضب (النميرى) ، وجعله يصدر امرا الغى به نتيجة تلك المباراة، بل حل أجهزة كرة القدم وأعلن ما سمى بالرياضة الجماهيرية. التى شردت معظم اللأعبين فهاجروا الى خارج البلد.

وأن تطرقنا للرياضة فى غير مجالها فعذرنا أن (وردى) رياضى مهووس بالهلال
و(رشاشه كبير)، وهذا ما تبقى منه فى زمن (مرجان أحمد مرجان) أو جمال الوالى.

فى أحدى اللقاءات الأذاعية سألته المذيعة عن تجربة فنان معــــروف له أسمه وأحترامه ومكانته، وعن تقويمه لذلك الفنان وهو (يكتب الأغنية ويلحنها ويؤديها بنفسه)، فأجابها بكل بساطة وسخرية: ( ذلك  الفنان مثل الخباز الذى يعجن الخبز ويرسله للفرن ثم ياكله لوحده).

وفى نفس تلك الحلقة الأذاعية غنى (وردى)، أغنية فنان الطمبور/ محمد كرم الله ،
(حتى الطيف رحل خلانى ماطيب لى خاطر)، بصورة ولا أروع. تجعلك تتحسس شجر النخيل وهو يتراقص ويتمائل وتشاهد الساقية وتشم رائحة الطين، وتشاهد (مصطفى سعيد) يحمل طوريته قبل أن يختفى أثره ويترك حسنه بت محمود لنزوات العجوز (ودالريس).

(وردى) .. فنان صاحب قضية وموقف ومبدأ (فى السابق) وقد عانى من ذلك الأمرين ، فكثيرا ما تدخل رجال الأمن واخذوه معهم أثناء ما كان يؤدى فى أحدى أغنياته السياسية، واحيانا يوسعونه ضربا ومرات أخرى يتدخل الجمهور ويحميه، ويمنعهم من أخذه الا بعد أنتهاء الحفل. ولا أنسى حينما كان يغنى فى زواج السيد / عوض عشيب الرياضى المعروف ، (بالمهدية الحارة الأولى) ، وقد تصادف أن كان الحفل ليلة 25 مايو، والنظام المايوى فى قمة بطشه بالمعارضين، وعند ما أنتصف الليل ، توقف
(وردى) عن الأستمرار فى اداء أغنية عاطفية وتحول مباشرة ومعه الكورس المصاحب الى نشيد ( باسمك الأخضر يا اكتوبر الأرض تغنى).

فأختلط الحابل بالنابل وتحول الفرح الى مظاهرة ضخمه ، الكل يردد والبعض دموعه منسابه ( بأسمك الشعب أنتصر حائط السجن أنكسر)، وقد استمر يردد فى ذلك النشيد لوحده قرابة النصف ساعة ، دون أن يتوقف ودون أن يتوقف الجمهور عن الترديد من خلفه أو يحسوا بالملل.

وردى ظلم كما لم يظلم فنان من قبل و(فصلت) له اثير من الأشاعات ، خصوصا فى الجانب المادى، وقيل عنه أنه صعب فى (الماده) ولا يجامل، لكنى اشهد على أنه يغنى  كثيرا بدون مقابل، اذا كان صاحب المناسبه صديق عزيز يعرف ظروفه أو كان من المنتمين لأتجاهه (الأحمر) فى السابق.

ومن ناحية أخرى لا بد ان نعترف ان وردى هو أحد المبدعين الذين منحوا الفنان السودانى الأحترام والتقدير الذى يستحقه حينما جعل الفن يتفاعل وينصهر مع قضايا المجتمع وفى وعى وأدراك كامل.

اما( وردى) واغنياته فحدث ولا حرج ومن اى أغنية نبدأ وبأيهما ننتهى ولكل منا ذكرى او موقف لأغنية من اغنياته أو نشيد مما أنشد (صدفه ، غلطه ، أول غرام ،
يا طير يا طير، نور العين، المستحيل، الحنين يافؤادى، اول ميعاد، الصورة، الود، لو بهمسه، بعد أيه، الحنينه السكرة، عصافير الخريف، الطير المهاجر، ذات الشامه، أعز الناس، فرحى خلق الله، أرحل، قلت ارحل، اسفاى ....الخ. عن أى أغنيه نتحدث وعن أى ذكريات وعن أى أداء لكنى اذكر ان الأغنية التى يقول فيها:
(يلا وتعال يلا
نهاجر فى بلاد الله
ننسى الناس وينسونا
وفوقنا الطيبة تتدلى
سمعت انها استوحيت من قصة للأديب المعروف / أحسان عبدالقدوس. ووردى محبوب فى الكثير من الدول الأفريقية مثلما هو محبوب فى السودان، خصوصا فى أثيوبيا والصومال وتشاد ونيجريا وبعض الدول العربية وفى مقدمتها اليمن، لكن ما أذهلنى حقا رواية حكاها لى أحد الأصدقاء أنه وجد شابا فى ساحل العاج يتحدث اللغة العربية، فقال لى محدثى ماكنت سوف أستغرب أن طلب منى ذلك الشاب شريط  لوردى أو للاستماع لأغنية من اغنياته المعروفة، ولكن ما أستغربته أنه طلب منى شريطا لأغانى ( وردى) التى كتبها (أسماعين) حسن بالتحديد !!!

وأذ لم يمتعنا وردى ويملأ حياتنا وردا ورياحين، فيكفيه أنه غنى :-
يا شعبا تسامى 
يا هذا الهمام
تشق الدنيا ياما
وتتطلع من زحامه
زى بدر التمام
قدرك عالى قدرك
ياعالى المقام

التحية لوردى ومتعه الله بالصحة والعافية بقدرما متعنا وأسعدنا وبقدر ما جعل لهذا الفن قيمة ومكانة وأحترام.

خاطرة أخيرة:-

انا لا أدعى معرفة لصيقه بكل اؤلئك الأهرامات والمبدعين الذين كتبت عنهم فى السابق، لكنها خواطر محب ومستمع عادى ( يحاول أن ينظف أذنيه) وهى رؤيه خاصة، أحب ان أشرك فيها معى من يودون أدخال السبابة الوسطى  لتذوق القليل من الشهد والعسل الصافى.